فصل: سنة تسع وثمانين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة تسع وثمانين ومائة وألف:

فيها عزم محمد بك أبو الذهب على السفر والتوجه إلى البلاد الشامية بقصد محاربة الظاهر عمر واستخلاص ما بيده من البلاد، فبرز حاميه إلى العادلية وفرق الأموال والتراحيل على الأمراء والعساكر والمماليك، واستعد لذلك استعداداً عظيماً في البحر والبر، وأنزل بالمراكب الذخيرة والجبخانة والمدافع والقنابل، والمدفع الكبير المسمى بأبو مايلة الذي كان سبكه في العام الماضي. وسافر بجموعه وعساكره في أوائل المحرم، وأخذ صحبته مراد بك وإبراهيم بك طنان وإسمعيل بك تابع إسمعيل بك الكبير لا غير، وترك بمصر إبراهيم بك وجعله عوضاً عنه في إمارة مصر وإسمعيل بك وباقي الأمراء والباشا بالقلعة، وهو مصطفى باشا النابلسي وأرباب العكاكيز والخدم والوجاقلية. ولم يزل في سيره حتى وصل إلى جهة غزة، وارتجت البلاد لوروده، ولم يقف أحد في وجهه، وتحصن أهل يافا بها وكذلك الظاهر عمر تحصن بعكا، فلما وصل إلى يافا حاصرها وضيق على أهلها وامتنعوا عم أيضاً عليه، وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج، ورمى عليهم بالمدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليالي، فكانوا يصعدون إلى أعلى السور ويسبون المصريين وأميرهم سباً قبيحاً. فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها وهجموا عليها من كل ناحية وملكوها عنوة ونهبوها، وقبضوا على أهلها وربطوهم في الحبال والجنازير، وسبوا النساء والصبيان، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. ثم جمعوا الأسرى خارج البلد ودوروا فيهم السيف وقتلوهم عن آخرهم، ولم يميزوا بين الشريف والنصراني واليهودي والعالم والجاهل والعامي والسوقي، ولا بين الظالم والمظلوم، وربما عوقب من لا جنى، وبنوا من رؤوس القتلى عدة صوامع ووجوهها بارزة تنسف عليها الأتربة والرياح والزوابع، ثم ارتحل عنها طالباً عكا فلما بلغ الظاهر عمر ما وقع بيافا اشتد خوفه وخرج من عكا هارباً وتركها وحصونها، فوصل إليها محمد بك ودخلها من غير مانع، وأذعنت له باقي البلاد ودخلوا تحت طاعته، وخافوا سطوته وداخل محمد بك من الغرور والفرح ما لا مزيد عليه، وما آل به إلى الموت والهلاك. وأرسل بالبشائر إلى مصر والأمراء بالزينة فنودي بذلك وزينت مصر وبولاق القاهرة وخارجها زينة عظيمة، وعمل بها وقدات وشنكات وحراقات وأفراح ثلاثة أيام بلياليها، وذلك في أوائل ربيع الثاني. فعند انقضاء ذلك ورد الخبر بموت محمد بك، واستمر في كل يوم يفشو الخبر وينمو ويزيد ويتناقل ويتأكد حتى وردت السعاة بتصحيح ذلك، وشاع في الناس وصاروا يتعجبون ويتلون قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}. وذلك أنه لما تم له الأمر وملك البلاد المصرية والشامية وأذعن الجميع لطاعته، وقد كان أرسل إسمعيل أغا أخا علي بيك الغزاوي إلى إسلامبول يطلب أمرية مصر والشام، وأرسل صحبته أموالاً وهدايا، فأجيب إلى ذلك وأعطوه التقاليد والخلع والبرق والداقم وأرسل له المراسلات والبشائر بتمام الأمر، فوافاه ذلك يوم دخوله عكا فامتلأ فرحاً وحم بدنه في الحال، فأقام محموماً ثلاثة أيام، ومات ليلة الرابع ثامن ربيع الثاني. ووافى خبر موته إسمعيل أغا عندما تهيأ نزل في المراكب يريد المسير إلى مخدومه، فانتقض الأمر وردت التقاليد وباقي الأشياء. ولما تم له أمر يافا وعكا وباقي البلاد والثغور، فرح الأمراء والأجناد الذين بصحبته برجوعهم إلى مصر، وصاروا متشوقين للرحيل والرجوع إلى الأوطان. فاجتمعوا إليه في اليوم الذي نزل به ما نزل في ليته، فتبين لهم من كلامه عدم العود، وأنه يريد تقليدهم المناصب والأحكام بالديار الشامية وبلاد السواحل، وأمرهم بإرسال المكاتبات إلى بيوتهم وعيالهم بالبشارات بما فتح الله عليهم وما سيفتح لهم، ويطمنوهم ويطلبوا احتياجاتهم ولوازمهم المحتاجين إليها من مصر. فعند ذلك اغتموا وعلموا أنهم لا براح لهم وإن أمله غير هذا وذهب كل إلى مخيمة يفكر في أمره قال الناقل: وأقمنا على ذلك الثلاة أيام التي تمرض فيها وأكثرنا لا يعلم بمرضه، ولا يدخل إليه إلا بعض خواصه، ولا يذكرون ذلك إلا بقولهم في اليوم الثالث أنه منحرف المزاج. فلما كان في صبح الليلة التي مات بها نظرنا إلى صيوانه وقد انهدم ركنه وأولاد الخزنة في حركة، ثم زاد الحال وجردوا على بعضهم السلاح بسبب المال، وظهر أمر موته وارتبك العرضي وحضر مراد بيك فصدهم وكفهم عن بعضهم، وجمع كبراءهم وتشاوروا في أمرهم وأرضى خواطرهم خوفاً من وقوع الفشل فيهم وتشتتهم في بلاد الغربة وطمع الشاميين وشماتتهم فيهم. واتفق رأيهم على الرحيل، وأخذوا رمة سيدهم صحبتهم، ولما تحقق عندهم أنهم إن دفنوه هناك في بعض المواضع أخرجه أهل البلاد ونبشوه وأحرقوه، فغسلوه وكفنوه ولفوه في المشمعات ووضعوه في عربة، وارتحلوا به طالبين الديار المصرية. فوصلوا في ستة عشر يوماً ليلة الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني أواخر النهار، فأرادوا دفنه بالقرافة. وحضر الشيخ الصعيدي فأشار بدفنه في مدرسته تجاه الأزهر، فحفروا له قبراً في الليوان الصغير الشرقي وبنوه ليلاً، ولما أصبح النهار عملوا له مشهداً وخرجوا بجنازته من بيته الذي بقوصون، ومشى أمامه المشايخ والعلماء والأمراء وجميع الأحزاب والأوراد وأطفال المكاتب، وأمام نعشه مجامر العنبر والعود ستراً على رائحته ونتنه، حتى وصلوا به إلى مدفنه، وعملوا عنده ختمات وقراءات وصدقات عدة ليال وأيام نحو أربعين يوماً. واستقرأ تباعه أمراء ورئيسهم إبراهيم بيك ومراد بيك وباقيهم الذين أمرهم في حياته، ومات عنهم يوسف بيك وأحمد بيك الكلارجي ومصطفى بيك الكبير وأيوب بيك الكبير وذو الفقار بيك ومحمد بيك طبال ورضوان بيك، والذين تأمروا بعده أيوب بك الدفتردار وسليمان بيك الأغا وإبراهيم بيك الوالي وأيوب بيك الصغير وقاسم بيك الموسقو وعثمان بيك الشرقاوي ومراد بيك الصغير وسليم بيك أبو دياب ولاجين بيك وسيأتي ذكر أخبارهم. وجمع كبراءهم وتشاوروا في أمرهم وأرضى خواطرهم خوفاً من وقوع الفشل فيهم وتشتتهم في بلاد الغربة وطمع الشاميين وشماتتهم فيهم. واتفق رأيهم على الرحيل، وأخذوا رمة سيدهم صحبتهم، ولما تحقق عندهم أنهم إن دفنوه هناك في بعض المواضع أخرجه أهل البلاد ونبشوه وأحرقوه، فغسلوه وكفنوه ولفوه في المشمعات ووضعوه في عربة، وارتحلوا به طالبين الديار المصرية. فوصلوا في ستة عشر يوماً ليلة الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني أواخر النهار، فأرادوا دفنه بالقرافة. وحضر الشيخ الصعيدي فأشار بدفنه في مدرسته تجاه الأزهر، فحفروا له قبراً في الليوان الصغير الشرقي وبنوه ليلاً، ولما أصبح النهار عملوا له مشهداً وخرجوا بجنازته من بيته الذي بقوصون، ومشى أمامه المشايخ والعلماء والأمراء وجميع الأحزاب والأوراد وأطفال المكاتب، وأمام نعشه مجامر العنبر والعود ستراً على رائحته ونتنه، حتى وصلوا به إلى مدفنه، وعملوا عنده ختمات وقراءات وصدقات عدة ليال وأيام نحو أربعين يوماً. واستقرأ تباعه أمراء ورئيسهم إبراهيم بيك ومراد بيك وباقيهم الذين أمرهم في حياته، ومات عنهم يوسف بيك وأحمد بيك الكلارجي ومصطفى بيك الكبير وأيوب بيك الكبير وذو الفقار بيك ومحمد بيك طبال ورضوان بيك، والذين تأمروا بعده أيوب بك الدفتردار وسليمان بيك الأغا وإبراهيم بيك الوالي وأيوب بيك الصغير وقاسم بيك الموسقو وعثمان بيك الشرقاوي ومراد بيك الصغير وسليم بيك أبو دياب ولاجين بيك وسيأتي ذكر أخبارهم.

.من مات في هذه السنة من الأعيان:

مات الإمام الهمام شيخ مشايخ الإسلام عالم العلماء الأعلام إمام المحققين وعمدة المدققين الشيخ علي بن أحمد بن مكرم الله الصعيدي العدوي المالكي، ولد ببني عدى كما أخبر عن نفسه سنة 1112، ويقال له أيضاً المنفيسي لأن أصوله منها، وقدم إلى مصر وحضر دروس المشايخ كالشيخ عبد الوهاب الملوى والشيخ شلبي البرلسي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عبد الله المغربي والسيد محمد السلموني ثلاثتهم عن الخرشي وأقرانه وكسيدي محمد الصغير والشيخ إبراهيم الفيومي ومحمد بن زكريا والشيخ محمد السجبيني والشيخ إبراهيم شعيب المالكي والشيخ أحمد الملوى والشيخ أحمد الديربي والشيخ عيد النمرسي والشيخ مصطفى العزيزي والشيخ محمد العشماوي والشيخ محمد ابن يوسف والشيخ أحمد الأسقاطي والبقرى والعماوي والسيد علي السيواسي والمدابغي والدفري والبليدي والحفني وآخرين، وبآخرة تلقن الطريقة الأحمدية عن الشيخ علي بن محمد الشناوي، ودرس بالأزهر وغيره. وقد بارك الله في أصحابه طبقة بعد طبقة كما هو مشاهد، وكان يحكي عن نفسه أنه طالما كان يبيت بالجوع في مبدأ اشتغاله بالعلم، وكان لا يقدر على ثمن الورق، ومع ذلك إن وجد شيئاً تصدق به. وقد تكررت له بشارات حسنة مناماً ويقظة وله مؤلفات دالة على فضله منها حاشية على ابن تركي وأخرى على الزرقاني على العزية وأخرى على شرح أبي الحسن على الرسالة في مجلدين ضخمين، وأخرى على الخرشي، وأخرى على شرح الزرقاني على المختصر، وأخرى على الهدهدي على الصغرى، وحاشيتان على عبد السلام على الجوهرة كبرى وصغرى، وأخرى على الأخضري على السلم، وأخرى على بن عبد الحق على بسملة شيخ الإسلام، وأخرى على شرح شيخ الإسلام على الفية المصطلح للعراقي، وغير ذلك. وكان قبل ظهوره لم تكن المالكية تعرف الحواشي على شروح كتبهم الفقهية، فهو أول من خدم تلك الكتب بها، وله شرح على خطبة كتاب إمداد الفتاح على نور الإيضاح في مذهب الحنفية للشيخ السرنبلالي، وكان رحمه الله شديد الشكيمة في الدين يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة ويحب الاجتهاد في طلب العلم ويكره سفاسف الأمور وينهى عن شرب الدخان ويمنع من شربه بحضرته وبحضرة أهل العلم تعظيماً لهم. وإذا دخل إلى منزل من منازل الأمراء ورأى من يشرب الدخان شنع عليه وكسر آلته، ولو كانت في يد كبير الأمراء. وشاع عنه ذلك وعرف في جمع الخاص والعام وتركوه بحضرته، فكانوا عندما يرونه مقبلاً من بعيد نبه بعضهم بعضاً ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم وأخفوها عنه، وإن رأى شيئاً منها أنكر عليهم ووبخهم وعنفهم وزجرهم، حتى أن علي بك في أيام إمارته كان إذا دخل عليه في حاجة أو شفاعة أخبروه قبل وصوله إلى مجلسه فيرفع الشبك من يده ويخفوه من وجهه، وذلك مع عتوه وتجبره وتكبره. واتفق أنه دخل عليه في بعض الأوقات فتلقاه على عادته وقبل يده وجلس، فسكت الأمير مفكراً في أمر من الأمور فظن الشيخ إعراضه عنه فأخذته الحدة وقال مخاطباً له باللغة الصعيدية:
يا مين يا مين يا من هو غضبك ورضاك على حد سواء بل غضبك خير من رضاك. وكرر ذلك وقام قائماً وهو يأخذ بخاطره ويقول: أنا لم أغضب من شيء ويستعطفه. فلم يجبه ولم يجلس ثانياً، وخرج ذاهباً. ثم سأل علي بك عن القضية التي أتى بسببها فأخبروه فأمر بقضائها. واستمر الشيخ منقطعاً عن الدخول إليه مدة حتى ركب في ليلة من ليالي رمضان مع الشيخ الوالد في حاجة عند بعض الأمراء ومرا ببيت علي بك فقال له ادخل بنا نسلم عليه، فقال يا شيخنا أنا لا أدخل، فقال لا بد من دخولك معي. فلم تسعه مخالفته، وانسر بذلك علي بك تلك الليلة سروراً كثيراً. ولما مات علي بك واستقل محمد بك أبو الذهب بإمارة مصر، كان يجل من شأنه ويحبه ولا يرد شفاعته في شيء أبداً، وكل من تعسر عليه قضاء حاجة ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته فيكتبها مع غيرها في قائمة حتى تمتلئ الورقة ثم يذهب إلى الأمير بعد يومين أو ثلاثة فعند ما يستقر في الجلوس، يخرج القائمة من جيبه ويقص ما فيها من القصص والدعاوى واحدة بعد واحدة ويأمره بقضاء كل منها والأمير لا يخالفه ولا ينقبض خاطره في شيء من ذلك. ولما بنى الأمير المذكور مدرسته كان المترجم هو المتعين في التدريس بها داخل القبة على الكرسي، وابتدأ بها البخاري وحضره كبار المدرسين فيها وغيرهم، ولم يترك درسه بالأزهر ولا بالبرديكية. وكان يقرأ قبل ذلك بمسجد الغريب عند باب البرقية في وظيفة جعلها له الأمير عبد الرحمن كتخدا، وكذلك وظيفة بعد الجمعة بجامع مرزه ببولاق. وكان على قدم السلف في الاشتغال والقناعة وشرف النفس وعدم التصنع والتقوى، ولا يركب إلا الحمار ويؤاسي أهله وأقاربه ويرسل إلى فقرائهم ببلده الصلات والأكسية والبز والطرح للناس والعصائب والمداسات وغير ذلك. ولم يزل مواظباً على الإقراء والإفادة حتى تمرض بخراج في ظهره أياماً قليلة، وتوفي في عاشر رجب من السنة، وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم ودفن بالبستان بالقرافة الكبرى، رحمه الله ولم يخلف بعده مثله ولم أعثر على شيء من مراثيه.
ومات الإمام العلامة الفقيه الصالح الشيخ أحمد بن عيسى بن أحمد ابن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الشافعي، ولد بمصر وبها نشأ وحفظ القرآن والمتون وتفقه على والده وغيره وحضر المعقول وتمهر وأنجب ودرس في حياة والده، وبعد وفاته تصدر للتدريس في محله، وحضره طلبة أبيه واتسعت حلقة درسه مثل أبيه واشتهر ذكره وانتظم في عداد العلماء. وكان نعم الرجل شهامة وصرامة، وفيه صداقة وحب للإخوان. توفي بطندتا ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول فجأة، إذ كان ذهب للزيارة المعتادة وجيء به إلى مصر، فغسل في بيته وكفن وصلي عليه بالجامع الأزهر، ودفن بتربة والده بالمجاورين.
ومات الإمام الفاضل المسن الشيخ أحمد بن رجب بن محمد البقري الشافعي المقري، حضر دروس كل من الشيخ المدابغي والحفني ولازم الأول كثيراً فمسمع منه البخاري بطرفيه والسيرة الشامية كلها، وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار، وكان سريع الفهم وافر العلم كثير التلاوة للقرآن مواظباً على قيام الليل سفراً وحضراً، ويحفظ أوراداً كثيرة وأحزاباً ويجيز بها، وكان يحفظ غالب السيرة ويسردها من حفظه، ونعم الرجل كان متانة ومهابة. توفي وهو متوجه إلى الحج في منزلة النخل آخر يوم من شوال من السنة ودفن هناك.
ومات عالم المدينة ورئيسها الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان، ولد بالمدينة ونشأ في حجر والده واشتغل يسيراً بالعلم وأرسله والده إلى مصر في سنة 1174 فتلقته تلامذة أبيه بالإكرام، وعقد حلقة الذكر بالمشهد الحسيني، وأقبلت علي الناس، ثم توجه إلى المدينة. ولما توفي والده أقيم شيخاً في محله، ولم يزل على طريقته حتى مات في رابع الحجة من السنة عن ثمانين سنة.
ومات العلامة المعمر الصالح الشيخ أحمد الخليلي الشامي أحد المدرسين بالأزهر، تلقى عن أشياخ عصره ودرس وأفاد، وكان به انتفاع للطلبة تام عام، وألف أعراب الآجرومية وغيره. توفي في عاشر صفر من السنة.
ومات الأمير الكبير محمد بك أبو الذهب تابع علي بك الشهير اشتراه أستاذه في سنة خمس وسبعين فأقام مع أولاد الخزنة أياماً قليلة وكان إذ ذاك إسمعيل بك خازندار، فلما أمر إسمعيل بك قلده الخازندارية مكانه وطلع مع مخدومه إلى الحج ورجع أوائل سنة ثمان وسبعين، وتأمر في تلك السنة وتقلد الصنجقية وعرف بأبي الذهب. وسبب تلقبه بذلك أنه لما لبس الخلعة بالقلعة صار يفرق البقاشيش ذهباً وفي حال ركوبه ومروره جعل ينثر الذهب على الفقراء والجعيدية حتى دخل إلى منزله فعرف بذلك لأنه لم يتقدم نظيره لغيره ممن تقلد الأمريات، واشتهر عنه هذا اللقب وشاع وسمع عن نفسه شهرته بذلك فكان لا يضع في جيبه إلا الذهب، ولا يعطي إلا الذهب ويقول: أنا أبو الذهب، فلا أمسك إلا الذهب. وعظم شأنه في زمن قليل ونوه مخدومه بذكره وعينه في المهمات الكبيرة والوقائع الشهيرة وكان سعيد الحركات مؤيد العزمات لم يعهد عليه الخذلان في مصاف قط وقد تقدمت أخباره ووقائعه في أيام أستاذه علي بك وبعده، واستكثر من شراء المماليك والعبيد حتى اجتمع عنده في الزمن القليل ما لا يتفق لغيره في الزمن الكثير، وتقلدوا المناصب والأمريات. فلما تمهدت البلاد بسعده المقرون ببأس أستاذ خالف عليه وضم المشردين وغمرهم بالإحسان واستمال بواقي أركان الدولة واستلين الجميع جانبه وجنحوا إليه وأحبوه وأعانوه وتعصبوا له وقاتلوا بين يديه حتى أراحوا علي بك وخرج هارباً من مصر إلى الشام، واستقر المترجم بمصر وساس الأمور وقلد المناصب وجبى الأموال والغلال وراسل الدولة العثمانية وأظهر لهم الطاعة وقلد مملوكه إبراهيم بك إمارة الحج تلك السنة، وصرف العلائف وعوائد العربان وأرسل الغلال للحرمين والصرر وتحرك علي بك للرجوع إلى مصر وجيش الجيوش فلم يهتم المترجم لذلك وكاد له كيداً بأن جمع القرانصة والذين يظن فيهم النفاق وأسر إليهم أن يراسلوا علي بك ويستعجلوه في الحضور ويثقوا مساوئ للمترجم ومنفرات ويعدوه بالمخامرة معه والقيام بنصرته متى حضر وأرسلوها إليه بالشريطة السرية. فراج عليه ذلك واعتقد صحته وأرسل إليهم بالجوابات وأعادوا له الرسالة كذلك باطلاع مخدومهم وإشارته، فعند ذلك قوي عزم علي بك على الحضور وأقبل بجنوده إلى جهة الديار المصرية، فخرج إليه المترجم ولاقاه بالصالحية وأحضره أسيراً كما تقدم. ومات بعد أيام قليلة وانقضى أمره وارتاح المترجم من قبله وجمع باقي الأمراء المطرودين والمشردين وأكرمهم واستخدمهم وواساهم واستوزرهم وقلدهم المناصب ورد إليهم بلادهم وعوائدهم واستعبدهم بالإحسان والعطايا واستبدلهم العز بعد الذل والهوان وراحة الأوطان بعد الغربة والتشريد والهجاج في البلدان. فثبتت دولته وارتاحت النواحي من الشرور والتجاريد وهابته العربان وقطاع الطريق وأولاد الحرام وأمنت السبل وسلكت الطرق بالقوافل والبضائع، ووصلت المجلوبات من الجهات القبلية والبحرية بالتجارات والمبيعات. وحضر والي مصر خليل باشا وطلع إلى القلعة على العادة القديمة وحضر للمترجم من الدولة المرسومات والخطابات ووصل إليه سيف وخلعة فلبس ذلك في الديوان ونزل في أبهة عظيمة وعظم شأنه وانفرد بإمارة مصر. واستقام أمره وأهمل أمر اتباع أستاذه علي بك وأقام أكثرهم بمصر بطالاً. وحضر إلى مصر مصطفى باشا النابلسي من أولاد العضم والتجأ إليه فأكرم نزله ورتب له الرواتب وكاتب الدولة وصالح عليه وطلب له ولاية مصر فأجيب إلى ذلك ووصلت إليه التقاليد والداقم في ربيع الثاني سنة ثمان وثمانين. ووجه خليل باشا إلى ولاية جدة وسافر من القلزم في جمادى الثانية، وتوفي هناك وفي أواخر سنة سبع وثمانين. شرع في بناء مدرسته التي تجاه الجامع الأزهر وكان محلها رباع متخربة فاشتراها من أربابها وهدمها وأمر ببنائها على هذه الصفة، وهي على أرنيك جامع السنانية الكائن بشاطئ النيل ببولاق. فرتب لنقل الأتربة وحمل الجير والرماد والطين عدة كبيرة من قطارات البغال وكذلك الجمال لشيل الأحجار العظيمة كل حجر واحد على جمل، وطحنوا لها الجبس الحلواني المصيص ورموا أساسها في أوائل شهر الحجة ختام السنة المذكورة، ولما تم عقد قبتها العظيمة وما حولها من القباب المعقودة على اللواوين وبيضوها ونقشوا داخل القبة بالألوان والأصباغ وعمل لها شبابيك عظيمة كلها من النحاس الأصفر المصنوع وعمل بظاهرها فسحة مفروشة بالرخام المرمر وبوسطها حنفية وحولها مساكن لمتصوفة الأتراك وبداخلها عدة كراسي راحة، وكذلك بدورها العلوي وبأسفل من ذلك ميضأة عظيمة تمتلئ بالماء من نوفرة بوسطها تصب في صحن كبير من الرخام المصنوع نقلوه إليها من بعض الأماكن القديمة ويفيض منه فيملأ الميضأة وحول الميضأة عدة كراسي راحة وأنشأ ساقية لذلك، فحفروها وخرج ماؤها حلواً فعد ذلك أيضاً من سعده، مع أن جميع الآبار والسواقي التي بتلك الخطة ماؤها في غاية الملوحة، وأنشأ سفل ذلك صهريجاً عظيماً يملأ في كل سنة من ماء النيل وحوضاً عظيماً لسقي الدواب وعمل بأعلى الميضأة ثلاثة أماكن برسم جلوس المفتين الثلاثة يجلسون بها حصة من النهار لإفادة الناس بعد إملاء الدروس، وقرر فيها الشيخ أحمد الدردير مفتي المالكية والشيخ عبد الرمن العريشي مفتي الحنفية والشيخ حسن الكفراوي مفتي الشافعية. ولما تم البناء فرشت جميعها بالحصر ومن فوقها الأبسطة الرومي من داخل وخارج حتى فرجات الشبابيك ومساكن الطباق. ولما استقر جلوس المفتين المذكورين بالثلاثة أماكن التي أعدت لهم أضر بهم الرائحة الصاعدة إليهم من المراحيض التي من أسفل وأعلموا الأمير بذلك فأمر بإبطالها وبنوا خلافها بعيداً عنها، وتقرر في خطابتها الشيخ أحمد الراشدي وغالب المدرسين بالأزهر مثل الشيخ علي الصعيدي مدرس البخاري والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الرحمن العريشي والشيخ حسن الكفراوي والشيخ أحمد يونس والشيخ أحمد السمنودي والشيخ علي الشنويهي والشيخ عبد الله اللبان والشيخ محمد الحفناوي والشيخ محمد الطحلاوي والشيخ حسن الجداوي والشيخ أب الحسن القلعي والشيخ البيلي والشيخ محمد الحريري والشيخ منصور المنصوري والشيخ أحمد جاد الله والشيخ محمد المصيلحي ودرسا ليحيى أفندي شيخ الأتراك. وتقرر السيد عباس إماماً راتباً بها وفي وظيفة التوقيت الشيخ محمد الصبان، وجعل بها خزانة كتب عظيمة وجعل خازنها محمد أفندي حافظ وينوب عنه الشيخ محمد الشافعي الجناجي ورتب للمدرسين الكبار في كل يوم مائة وخمسين نصفاً فضة ولمن دونهم خمسون نصفاً وكذلك للطلبة منهم من له عشرة أنصاف في كل يوم ومنهم من له أكثر وأقل، ويقدر عدد الدراهم أرادب من البرفي كل سنة. ولما انتهى أمرها وصلى بها الجمعة في شهر شعبان سنة ثمان وثمانين، حضر الأمير المذكور واجتمع المشايه والطلبة وأرباب الوظائف وصلوا بها الجمعة، وبعد انقضاء الصلاة جلس الشيخ الصعيدي على الكرسي وأملى حديث من بنى لله مسجداً ولو كفحص قطاة بنى الله له بيت في الجنة. فلما انقضى ذلك أحضرت الخلع والفراوي فألبس الشيخ الصعيدي والشيخ الراشدي الخطيب والمفتين الثلاثة فراوي سمور وباقي المدرسين فراوي نافا بيضا، وأنعم في ذلك اليوم على الخدمة والمؤذنين وفرق عليهم الذهب والبقاشيش وتنافس الفقهاء والأشياخ والطلبة وتحاسدوا وتفاتنوا ووقف على ذلك أمانة قويسنا وغيرها والحوانيت التي أسفل المدرسة ولم يصرف ذلك إلا سنة واحدة، فإن المترجم سافر في أوائل سنة تسع وثمانين إلى البلاد الشامية كما تقدم ومات عناك ورجعوا برمته وتآمر أتباعه وتقاسموا البلاد فيما بينهم ومن جملتها أمانة قويسنا الموقوفة، فبرد أمر المدرسة وعوضوا عن ذلك الوكالة التي أنشأها علي بك ببولاق لمصرف أجرة وعليق الأثوار بعدما أضعفوا المعاليم ونقصوها ووزعوا عليهم ذلك الإيراد القليل، ولم يزل الحال يتناقص ويضعف حتى بطل منها غالب الوظائف والخدم إلى أن بطل التوقيت والآذان بل والصلاة في أكثر الأوقات، وأخلق فرشها وبسطها وعتقت وبليت وسرق بعضها وأغلق أحد أبوابها المواجه للقبوة الموصل للمشهد الحسيني، بل أغلقت جميعها شهوراً مع كون الأمراء أصحاب الحل والعقد أتباع الواقف ومماليكه، لكن لما فقدت منهم القابلية واستولى عليهم الطمع والتفاخر والتنافس والتغاضي خوف الفشل وتفرق الكلمة من الانحراف عن الأوضاع ظهر الخلل في كل شيء حتى في الأمور الموجبة لنظام دولتهم وإقامة ناموسهم، كما يتضح ذلك فيما بعد. وبالجملة فإن المترجم كان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة وسعداً وحزماً وعزماً وحكماً وسماحة وحلماً، وكان قريباً للخير يحب العلماء والصلحاء ويميل بطبعه إليهم ويعتقد فيهم ويعظمهم وينصت لكلامهم ويعطيهم العطايا الجزيلة ويكره المخالفين للدين، ولم يشتهر عنه شيء من الموبقات والمحرمات ولا ما يشينه في دينه أو يخل بمروءته، بهي الطلعة جميل الصورة أبيض اللون معتدل القامة والبدن مسترسل اللحية مهاب الشكل وقوراً محتشماً قليل الكلام والالتفات ليس بمهدأ ولا خوار ولا عجول مبجلاً في ركوبه وجلوسه يباشر الأحكام بنفسه ولولا ما فعله آخراً من الإسراف في قتل أهل يافا بإشارة وزرائه لكانت حسناته أكثر من سيآته. ولم يتفق لأمير مثله في كثرة المماليك وظهور شأنهم في المدة اليسيرة وعظم أمرهم بعده وانحرفت طباعهم عن قبول العدالة ومالوا إلى طرق الجهالة واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم وزادوا عن سوابقهم وألفوا المظالم وظنوها مغانم وتمادوا على الجور وتلاحقوا في البغي على الفور إلى أن حصل ما حصل ونزل بهم وبالناس ما نزل. وسيتلى عليك من ذلك أنباء وأخبار وما حل بالإقليم بسببهم من الخراب والدمار والله تعالى أعلم. الجزيلة ويكره المخالفين للدين، ولم يشتهر عنه شيء من الموبقات والمحرمات ولا ما يشينه في دينه أو يخل بمروءته، بهي الطلعة جميل الصورة أبيض اللون معتدل القامة والبدن مسترسل اللحية مهاب الشكل وقوراً محتشماً قليل الكلام والالتفات ليس بمهدأ ولا خوار ولا عجول مبجلاً في ركوبه وجلوسه يباشر الأحكام بنفسه ولولا ما فعله آخراً من الإسراف في قتل أهل يافا بإشارة وزرائه لكانت حسناته أكثر من سيآته. ولم يتفق لأمير مثله في كثرة المماليك وظهور شأنهم في المدة اليسيرة وعظم أمرهم بعده وانحرفت طباعهم عن قبول العدالة ومالوا إلى طرق الجهالة واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم وزادوا عن سوابقهم وألفوا المظالم وظنوها مغانم وتمادوا على الجور وتلاحقوا في البغي على الفور إلى أن حصل ما حصل ونزل بهم وبالناس ما نزل. وسيتلى عليك من ذلك أنباء وأخبار وما حل بالإقليم بسببهم من الخراب والدمار والله تعالى أعلم.

.سنة تسعين ومائة وألف:

كان سلطان العصر فيها السلطان عبد الحميد بن أحمد خان العثماني ووالي مصر الوزير محمد باشا عزت الكبير وأمراؤها إبراهيم بك ومراد بيك مملوكاً محمد بيك أبي الذهب وخشداشينهما أيوب بيك الكبير ويوسف بيك أمير الحاج ومصطفى بيك الكبير وأحمد بيك الكلارجي وأيوب بيك الصغير ومحمد بيك طبل وحسن بيك سوق السلاح وذو الفقار بيك ولاجين بيك ومصطفى بيك الصغير وعثمان بيك الشرقاوي وخليل بيك الإبراهيمي، ومن البيوت القديمة حسن بيك قصبة رضوان ورضوان بيك بلفيا وإبراهيم بيك طبان وعبد الرحمن بيك عثمان الجرجاوي وسليمان بيك الشابوري، وبقايا اختيارية الوجاقات مثل أحمد باشجاويش أرنؤد وأحمد جاويش المجنون وإسمعيل أفندي الخلوتي وسليمان البرديسي وحسن أفندي درب الشمسي وعبد الرحمن أغا مجرم ومحمد أغا محرم وأحمد كتخدا المعروف بوزير وأحمد كتخدا الفلاح وباقي جماعة الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وغيرهم، والأمراء والنهي للأمراء المحمدية المتقدم ذكرهم وكبيرهم وشيخ البد إبراهيم بيك ولا ينفذ أمر بدون اطلاع قسيمة مراد بيك وإسمعيل بيك الكبير متنزه ومنعكف في بيته وقانع بإيراده وبلاده ومنزو عن التداخل فيهم من موت سيدهم وعمر داره التي بالأزبكية وأقام بها.
وفيها في يوم الخميس سابع شهر صفر، وصل الحج إلى مصر ودخل الركب وأمير الحاج يوسف بيك.
وفي ليلة الجمعة تاسع صفر، وقع حريق بالأزبكية وذلك في نصف الليل بخطة الساكت احترق فيها عدة بيوت عظام وكان شيئاً مهولاً، ثم إنها عمرت في أقرب وقت والذي لم يقدر على العمارة باع أرضه فاشتراها القادر وعمرها فعمر رضوان بيك بلفيا داراً عظيمة وكذلك الخواجا السيد عمر غراب والسيد أحمد عبد السلام والحاج محمود محرم بحيث أنه لم يأت النيل القابل إلا وهي أحسن وأبهج مما كانت عليه.
وفيها سقط برع بسوق الغورية ومات فيه عدة كثيرة من الناس تحت الردم، ثم إن عبد الرحمن أغا مستحفظان أخذ تلك الأماكن من أربابها شراء وأنشأ الحوانيت والربع علوها والوكالة المعروفة الآن بوكالة الزيت والبوابة التي يسلك منها من السوق.
وفيها حضر جماعة من الهنود ومعهم فيل صغير ذهبوا به إلى قصر العيني وأدخلوه بالإسطبل الكبير وهرع الناس للفرجة عليه ووقف الخدم على أبواب القصر يأخذون من المتفرجين دراهم وكذلك سواسة الهنود جمعوا بسببه دراهم كثيرة، وصار الناس يأتون إليه بالكعك وقصب السكر ويتفرجون على مصه في القصب وتناوله بخرطومه، وكان الهنود يخاطبونه بلسانهم ويفهم كلامهم، وإذا أحضروه بين يدي كبير كلموه فيبرك على يديه ويشير بالسلام بخرطومه.
وفيها في شهر رمضان، تعصب مراد بيك وتغير خاطره على إبراهيم بيك طنان ونفاه إلى المحلة الكبيرة وفرق بلاده على من أحب ولم يبق له إلا القليل.
وفيها شرع الأمير إسمعيل بك في عمل مهم لزواج ابنه وهي من زوجته هانم بنت سيدهم إبراهيم كتخدا الذي كان تزوجها في سنة أربع وسبعين بالمهم المذكور في حوادث تلك السنة، وكان ذلك المهم في أوائل شهر ذي الحجة وكان قبل هذا المهم حصل بينه وبين مراد بك منازعة ومخاصمة، وسببها أن مراد بك أراد أن يأخذ من إسمعيل بك السر ورأس الخليج فوقع بينهما مشاحنة ومخاصمة كاد يتولد منها فتنة، فسعى في الصلح بينهما إبراهيم بك فاصطلحا على غل وشرع في أثر ذلك إسمعيل بك في عمل الفرح، فاجتمعوا يوم العقد في وليمة عظيمة ووقف مراد بك وفرق المحارم والمناديل على الحاضرين، وهو يطوف بنفسه على أقدامه وعمل المهم أياماً كثيرة ونزل محمد باشا عزت باستدعاء إلى بيت إسمعيل بك، وعندما وصل إلى حارة قوصول نزل الأمراء بأسرهم مشاة على أقدامهم لملاقاته فمشوا جميعاً أمامه على أقدامهم وبأيديهم المباخر والقماقم، ولم يزالوا كذلك حتى طلع إلى المجلس ووقفوا في خدمته مثل المماليك حتى انقضى الطعام والشربات وقدموا له الهدايا والتقادم والخيول الكثيرة المسمومة، ولما انقضت أيام الولائم زفوا العروس إلى زوجها إبراهيم أغا الذي صنجقه إسمعيل بك وهو خازنداره ومملوكه ويسمونه قشطة، وكانت هذه الزفة من المواكب الجليلة ومشى فيها الفيل وعليه خلعة جوخ أحمر فكان ذلك من النوادر.
ومات في هذه السنة الفقيه المتفنن العلامة الشيخ أحمد بن محمد ابن محمد السجاعي الشافعي الأزهري ولد بالسجاعية قرب المحلة وقدم الأزهر صغيراً فحضر دروس الشيخ العزيزي والشيخ محمد السجيني والشيخ عبده الديوي والسيد علي الضرير فقهر ودرس وأفتى وألف وكان ملازماً على زيارة قبور الأولياء ويحيي الليالي بقراءة القرآن مع صلاح وديانة وولاية وجذب، وله مع الله حال غريب وهو والد الشيخ الأوحد أحمد الآتي ذكره في تاريخ موته. توفي المترجم رحمه الله تعالى في عصر يوم الأربعاء ثامن عشرين ذي القعدة.
ومات الشيخ الإمام الفقيه العلامة الشيخ عطية بن عطية الأجهوري الشافعي البرهاني الضرير ولد بأجهور الورد إحدى قرى مصر وقدم مصر فحضر دروس الشيخ العشماوي والشيخ مصطفى العزيزي وتفقه عليهما وعلى غيرهما وأتقن في الأصول وسمع الحديث ومهر في الآلات وأنجب ودرس المنهج والتحرير مراراً وكذا جمع الجوامع بمسجد الشيخ مطهر وله في أسباب النزول مؤلف حسن في بابه جامع لما تشتت من أبوابه وحاشية على الجلالين مفيدة وكذلك حاشية على شرح الزرفاني على البيقونية في مصطلح الحديث وغير ذلك، وقد حضر عليه غالب علماء مصر الموجودين واعترفوا بفضله وأنجبوا ببركته وكان يتأنى في تقريره ويكرر الإلقاء مراراً مراعاة للمستملين الذين يكتبون ما يقوله، ولما بنى المرحوم عبد الرحمن كتخدا هذا الجامع المعروف الآن بالشيخ مطهر الذي كان أصله مدرسة للحنفية وكانت يعرف بالسيوفيين بنى للمترجم بيتاً بدهليزها وسكن فيه بعياله وأولاده. توفي في أواخر رمضان.
ومات الشيخ الفاضل النجيب احمد بن محمد بن العجمي الشافعي كان شاباً فهيماً داركاً ذا حفظ جيد حضر على علماء العصر وحصل المعقول والمنقول وأدرك جانباً من العلوم والمعارف ودرس وأملى ولو عاش لانتظم في سلك أعاظم العلماء ولكن اخترمته المنية في يوم الاثنين حادي عشرين جمادى الآخرة.
ومات الشيخ الصالح الورع الناسك أحمد بن نور الدين المقدسي الحنفي إمام جامع قجماس وخطيبه بالدرب الأحمر وهو أخو الشيخ حسن المقدسي مفتي السادة الحنفية شارك أخاه الشيخ حسناً المذكور في شيوخه واشتغل بالعلم وكان شيخاً وقوراً بهي الشكل مقبلاً على شأنه منجمعاً عن الناس. توفي ليلة الاثنين سادس عشر ربيع الأول.
ومات الفقيه الفاضل الشيخ إبراهيم بن خليل الصيحاني الغزي الحنفي ولد بغزة وبها نشأ وقرأ بعض المتون على فضلاء بلده وورد الجامع الأ. هر فحضر الدروس ولازم المرحوم الوالد حسناً الجبرتي وتلقى عنه الفقه وبعض العلوم الغريبة ثم عاد إلى غزة وتولى الإفتاء بالمذهب، وكان يرسل إلى الوالد في كل سنة جانباً من الموز المر في غلق مقدار عشرين رطلاً فنخرج دهنه ونرفعه في الزجاج لنفع الناس في الدهن ومعالجات بعض الأمراض والجروحات، ولم يزل على ذلك حتى ارتحل إلى دمشق وتولى أمانة الفتوى بعد الشيخ عبد الشافي في فسار أحسن سير. وتوفي بها في هذه السنة في عشر التسعين رحمه الله.
ومات الفقيه الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد بن نصر بن هيكل ابن جامع الشنويهي تفقه على جماعة من فضلاء العصر وكان يحضر درس الحديث في كل جمعة على السيد البليدي ودرس بالأزهر وانتفع به الطلبة وكان مشهوراً بمعرفة الفروع الفقهية وكان درسه حافلاً جداً وله حظ في كثرة الطلبة وكان الأشياخ يتضايقون من حلقة درسه فيطردونه من المقصورة فيخرج إلى الصحن فتملأ حلقة درسه صحن الجامع، وفي بعض الأحيان ينتقل إلى مدرسة السنانية بجماعته، وكان يخطب بجامع الأشرفية بالوراقين وخطبته لطيفة مختصرة، وقرأ المنهج مراراً وكان شديد الشكيمة على نهج السلف الأول لا يعرف التصنع وكان يخبر عن نفسه أنه كان كثير الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم إنه لما تنزل مدرساً في المحمدية من جملة الجماعة انقطع عنه ذلك وكان يبكي ويتأسف لذلك. توفي في ثامن عشر شعبان وأملى نسبه على الدكة إلى سيدنا علي رضي الله عنه.
ومات الأمير الكبير الشهير عثمان بك الفقاري بإسلامبول في هذه السنة وكان مدة غربته ببرصا واسلامبول نيفاً وأربعاً وثلاثين سنة، وقد تقدم ذكره وذكر مبدأ أمره وظهوره وسبب خروجه من مصر ما يغني عن إعادة بعضه وهو أمر مشهور وإلى الآن بين الناس مذكور حتى أنهم جعلوا سنة خروجه تاريخاً يؤرخون به وفياتهم ومواليدهم فيقولون ولد فلان سنة خروج عثمان بك ومات فلان بعد خروج عثمان بك بسنة أو شهر مثلاً.
ومات الأمير عبد الرحمن كتخدا وهو بن حسن جاويش القزدغلي أستاذ سليمان جاويش أستاذ ابراهيم كتخدا مولى جميع الأمراء المصريين الموجودين الآن. وخبره ومبدأ إقبال الدنيا عليه أنه لما مات عثمان كتخدا القازدغلي واستولى سليمان جاويش الجوخدار على موجوده ولم يعط المترجم الذي هو ابن سيد أستاذه شيئاً ولم يجد من ينصفه في إيصال حقه من طائفة باب الينكجرية حسداً منهم وميلاً لأهوائهم وأغراضهم فحنق منهم وخرج من بابهم وانتقل إلى وجاق العزب وحلف أنه لا يرجع إلى وجاق الينكجرية ما دام سليمان جاويش الجوخدار حياً وبر في قسمه فإنه لما مات سليمان جاويش ببركة الحاج سنة 1152 كما تقدم، بادر سليمان كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا واستأذن عثمان بك في تقليد عبد الرحمن جاويش السردارية عوضاً عن سليمان جاويش لأنه وارثه ومولاه وأحضروه ليلاً وقلدوه ذلك وأحضر الكاتب والدفاتر وتسلم مفاتيح الخشخانات والتركة بأجمعها وكان شيئاً يجل عن الوصف، وكذلك تقاسيط البلاد، ولم تطمع نفس عثمان بك لشيء من ذلك وأخذ المترجم غرضه من باب العزب ورجع إلى باب الينكجرية ونما أمره من حينئذ وحج صحبة عثمان بك في سنة خمس وخمسين، وأقام هناك إلى سنة إحدى وستين، فحضر مع الحجاج وتولى كتخدا الوقت سنتين وشرع في بناء المساجد وعمل الخيرات وإبطال المنكرات فأبطل خمامير حارة اليهود، فأول عماراته بعد رجوعه السبيل والكتاب الذي يعلوه بين القصرين وجاء في غاية الظرف وأحسن المباني وأنشأ جامع المغاربة وعمل عند بابه سبيلاً بمنارة وصهريج وكتاب ومدفن السيد السطوحية، وأنشأ بالقرب من تربة الأزبكية سقاية وحوضاً لسقي الدواب ويعلوه كتاب وفي الحطابة كذلك وعند جامع الدشطوطي كذلك، وأنشأ وزاد في مقصور الجامع الأزهر مقدار النصف طولاً وعرضاً يشتمل على خمسين عاموداً من الرخام تحمل مثلها من البوائك المقوصرة المرتفعة المتسعة من الحجر المنحوت وسقف أعلاها بالخشب النفي وبنى به محراباً جديداً ومنبراً وأنشأ له باباً عظيماً جهة حارة كتامة وبنى بأعلاه مكتباً بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام من أطفال المسلمين القرآن وبداخله رحبة متسعة وصهريج عظيم وسقاية لشرب العطاش المارين، وعمل لنفسه مدفناً بتلك الرحبة وعليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة وبها أيضاً رواق مخصوص بمجاوري الصعائدة المنقطعين لطلب العلم يسلك إليه من تلك الرحبة بدرج يصعد منه إلى الرواق وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزائن كتب، وبنى بجانب ذلك الباب منارة وأنشأ باباً آخر جهة مطبخ الجامع وعليه منارة أيضاً. وبنى المدرسة الطيبرسية وأنشأها نشوأ جديداً وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية المقابلة لها من داخل الباب الكبير الذي أنشأه خارجهما جهة القبو الموصل للمشهد الحسيني وخان الجراكسة وهو عبارة عن بابين عظيمين كل باب بمصراعين وعلى يمينهما منارة وفوقه مكتب أيضاً وبداخله على يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة وأنشأ لها ساقية لخصوص إجراء المال إليها وبداخل باب الميضأة درج يصعد منه للمنارة ورواق البغداديين والهنود فجاء هذا الباب وما بداخله من الطيبرسية والآقبغاوية والأورقة من أحسن المباني في العظم والوجاهة والفخامة وعمل عند باب القبة الصهريج والمقصورة الكبيرة التي بها ضريح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فيما بين المسجد ودهليز القبة وفرش طريق القبة بالرخام الملون يسلك إليه بدهليز طويل متسع وعليه بوابة كبيرة من داخل الدهليز البراني وعلى الدهليز البراني من كلتا الجهتين بوابتان. وعمر أيضاً لمشهد النفيسي، ومسجده وبنى الصهريج على هذه الهيئة الموجودة وجعل لزيارة النساء طريقاً بخلاف طريق الرجال. وبنى أيضاً مشهد السيد زينب بقناطر السباع، ومشهد السيدة سكينة بخط الخليفة، والمشهد المعروف بالسيدة عائشة بالقرب من باب القرافة، والسيدة فاطمة والسيدة رقية، والجامع والرباط بحارة عابدين، وكذلك مشهد أبي السعود الجارحي على الصفة التي هو عليها الآن ومسجد شرف الدين الكردي بالحسينية. ومسجداً بخط الموسكي وبنى للشيخ الحنفي داراً بجوار ذلك المسجد وينفذ إليه من داخل. وعمر المدرسة السيوفية المعروفة بالشيخ مطهر بخطبات الزهومة وبنى لوالدته بها مدفناً. وأنشأ خارج باب القرافة حوضاً وسقاية وصهريجاً وجدد المارستان المنصوري وهدم أعلى القبة الكبيرة المنصورية والقبة التي كانت بأعلى الفسحة من خارج ولم يعد عمارتهما بل سقف قبة المدفن فقط وترك الأخرى مكشوفة ورتب له خيرات وأخبازاً زيادة على البقايا القديمة ولما عزم على ترميمه وعمارته أراد أن يحتاط بجهات وقفه فلم يجد له كتاب وقفف ولا دفتراً وكانت كتب أوقافه ودفاتره في داخل خزانة المكتب فاحترقت بما فيها من كتب العلم والمصاحف، ونسخ الوقفيات والدفاتر ووقفه يشتمل على وقف الملك المنصور قلاون الكبير الأصلي ووقف ولده الملك الناصر محمد ووقف بن الناصر أبي الفدا إسمعيل بل وغير ذلك من مرتبات الملوك من أولادهم ثم إنه وجد دفتراً من دفاتر الشطب المستجدة عند بعض المباشرين وذلك بعد الفحص والتفتيش فاستدل به على بعض الجهات المحتكرة. وللمترجم عمائر كثيرة وقناطر وجسور في بلاد الأرياف وبلاد الحجاز حين كان مجاوراً هنا. وبنى القناطر بطندتا في الطريق الموصلة إلى محلة مرحوم، والقنطرة الجديدة الموصلة إلى حارة عابدين من انحية الخلوتي على الخليج وقنطرة بناحية الموسكي، ورتب للعميان الفقراء الأكسية الصوف المسماة بالزعابيط فيفرق عليهم جملة كثيرة من ذلك عند دخول الشتاء في كل سنة فيأتون إلى داره أفواجاً في أيام معلومة ويعودون مسرورين بتلك الكساوي، وكذلك المؤذنون يفرق عليهم جملة من الإجرامات الطولونية يرتدون بها وقت التسبيح في ليالي الشتاء، وكذلك يفرق جملة من الحبر المحلاوي والبر الصعيدي والملايات والأخلاف والبوابيج القيصرلي على النساء الفقيرات والأرامل، ويخرج عند بيته في ليالي رمضان وقت الإفطار عدة من القصاع الكبار المملوءة بالثريد المسقي بمرق اللحم والسمن للفقراء المجتمعين ويفرق عليهم النقيب هبر اللهم النضيج فيعطى لكل فقير جعله وحصته في يده، وعندما يفرغون من الأكل يعطى لكل واحد منهم رغيفين ونصفي فضة برسم سحوره إلى غير ذلك. ومن عمائره القصر الكبير المعروف به بشاطئ النيل فيما بين بولاق ومصر القديمة وكان قصراً عظيماً من الأبنية الملوكية وقد هدم في سنة 1205 بيد الشيخ علي بن حسن مباشراً لوقف وبيعت أنقاضه وأخشابه ومات المباشر المذكور بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر. ومن عمائره أيضاً دار سكنه بحارة عابدين وكانت من الدور العظيمة المحكمة الوضع والاتقان لا يماثلها دار بمصر في حسنها وزخرفة مجالسها وما بها من النقوش والرخام والقيشاني والذهب المموه واللازورد وأنواع الأصباغ وبديع الصنعة والتأنق والبهجة وغرس بها بستاناً بديعاً بداخله قاعة متسعة مربعة الأركان بوسطها فسقية مفروشة بالرخام البديع الصنعة وأركانها مركبة على أعمدة من الرخام الأبيض، وغير ذلك من العمارات حتى اشتهر ذكره بذلك وسمي بصاحب الخيرات والعمائر في مصر والشام والروم، وعدة المساجد التي أنشأها وجدها وأقيمت فيها الخطبة والجمعة والجماعة ثمانية عشر مسجداً، وذلك خلاف الزوايا والأسبلة والسقايات والمكاتب والأحواض والقناطر والمربوط للنساء الفقيرات والمنقطعات. وكان له في هندسة الأبنية وحسن وضع العمائر ملكة يقتدر بها على ما يروعه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة. ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر من الزيادة والعمارة التي تقصر عنها همم الملوك لكفاه ذلك، وأيضاً المشهد الحسيني ومسجده والزيني والنفيسي وضم لوقفه ثلاث قرى من بلاد الأرز بناحية رشيد وهي تفينة وديبي وحصة كتامة وجعل إيرادها وما يتحصل من غلة أرزها لمصارف الخيرات وطعام الفقراء والمنقطعين، وزاد في طعام المجاورين بالأزهر ومطبخهم الهريسة في يومي الاثنين والخميس وقد تعطل غالب ذلك في هذا التاريخ الذي نحن فيه لغاية سنة 1220 بسبب استيلاء الخراب وتوالي المحن وتعطل الأسباب. ولم يزل هذا شأنه إلى أن استفحل أمر علي بك وأخرجه منفياً إلى الحجاز وذلك في أوائل شهر القعدة 1178 فأقام بالحجاز اثنتي عشرة سنة، فلما سافر يوسف بك أميراً بالحاج في السنة الماضية صمم على إحضاره صحبته إلى مصر فأحضره في تختروان وذلك في سابع شهر صفر سنة 1190 وقد استولى عليه العي والهرم وكرب الغربة فدخل إلى بيته مريضاً فأقام أحد عشر يوماً ومات فغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته في مشهد حافل حضره العلماء والأمراء والتجار ومؤذنو المساجد وأولاد المكاتب التي أنشأها ورتب لهم فيها الكساوي والمعاليم في كل سنة، وصلوا عليه بالأزهر، ودفن بمدفنه الذي أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلي. ولم يخلف بعده مثله رحمه الله.
ومن مساويه قبول الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهم واقتدى به في ذلك غيره حتى صارت سنة مقررة وطريقة مسلوكة ليست منكرة وكذلك المصالحة على تركات الأغنياء التي لها وارث ومن سيآته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررها وعم الإقليم خرابها وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها معاضدته لعلي بك ليقوى به على أرباب الرئاسة، فلم يزل يلقي بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض ويسلط عليهم علي بك المذكور حتى أضعف شوكات الأقوياء وأكد العداوة بين الأصفياء واشتد ساعد علي بك، فعند ذلك التفت إليه وكلب بنابه عليه وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه فلم يجد عند ذلك من يدافع عنه، وأقام هذه المدة في مكة غريباً وحيداً وأخرج أيضاً في اليوم الذي أخرجه فيه نيفاً وعشرين أميراً من الاختيارية كما تقدم. فعند ذلك خلا لعلي بك وخشداشينه الجو فباضوا وأفرخوا وامتد شرهم إلى الآن الذي نحن فيه كما سيتلى عليك بعضه، فهو الذي كان السبب بتقدير الله تعالى في ظهور أمرهم فلو لم يكن له من المساوئ إلا هذه لكفاه ولما رجع من الحجاز متمرضاً ذهب إليه إبراهيم بك ومراد بك وباقي خشداشينهم ليعودوه ولم يكن رآهم قبل ذلك فكان من وصيته لهم: كونوا مع بعضكم واضبطوا أمركم ولا تداخلوا الأعادي بينكم. وهذا بدل عن قوله أوصيكم بتقوى الله تعالى وتجنبوا الظلم وافعلوا الخير فإن الدنيا زائلة وانظروا حالي ومالي أو نحو ذلك هكذا أخبرني من كان حاضراً في ذلك الوقت، وكان سليط اللسان ويتصنع الحماقة فغفر الله لنا وله، رأيته مرة وأنا إذ ذاك في سن التمييز قبل أن ينفى إلى الحجاز، وهو ماش في جنازة، مربوع القامة أبيض اللون مسترسل اللحية ويغلب عليها البياض مترفهاً في ملبسه معجباً بنفسه يشار إليه بالبنان. ي والمعاليم في كل سنة، وصلوا عليه بالأزهر، ودفن بمدفنه الذي أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلي. ولم يخلف بعده مثله رحمه الله. ومن مساويه قبول الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهم واقتدى به في ذلك غيره حتى صارت سنة مقررة وطريقة مسلوكة ليست منكرة وكذلك المصالحة على تركات الأغنياء التي لها وارث ومن سيآته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررها وعم الإقليم خرابها وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها معاضدته لعلي بك ليقوى به على أرباب الرئاسة، فلم يزل يلقي بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض ويسلط عليهم علي بك المذكور حتى أضعف شوكات الأقوياء وأكد العداوة بين الأصفياء واشتد ساعد علي بك، فعند ذلك التفت إليه وكلب بنابه عليه وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه فلم يجد عند ذلك من يدافع عنه، وأقام هذه المدة في مكة غريباً وحيداً وأخرج أيضاً في اليوم الذي أخرجه فيه نيفاً وعشرين أميراً من الاختيارية كما تقدم. فعند ذلك خلا لعلي بك وخشداشينه الجو فباضوا وأفرخوا وامتد شرهم إلى الآن الذي نحن فيه كما سيتلى عليك بعضه، فهو الذي كان السبب بتقدير الله تعالى في ظهور أمرهم فلو لم يكن له من المساوئ إلا هذه لكفاه ولما رجع من الحجاز متمرضاً ذهب إليه إبراهيم بك ومراد بك وباقي خشداشينهم ليعودوه ولم يكن رآهم قبل ذلك فكان من وصيته لهم: كونوا مع بعضكم واضبطوا أمركم ولا تداخلوا الأعادي بينكم. وهذا بدل عن قوله أوصيكم بتقوى الله تعالى وتجنبوا الظلم وافعلوا الخير فإن الدنيا زائلة وانظروا حالي ومالي أو نحو ذلك هكذا أخبرني من كان حاضراً في ذلك الوقت، وكان سليط اللسان ويتصنع الحماقة فغفر الله لنا وله، رأيته مرة وأنا إذ ذاك في سن التمييز قبل أن ينفى إلى الحجاز، وهو ماش في جنازة، مربوع القامة أبيض اللون مسترسل اللحية ويغلب عليها البياض مترفهاً في ملبسه معجباً بنفسه يشار إليه بالبنان.